كيف بشاعر يكتب بلا قلم أو أوراق؟ صرت أتذكرها وأتصورها أمامي وأخاطبها:
"أنتِ حبري ودفاتري, صبرت عليكِ وأحببتكِ ورعيتكِ مثل طفل صغير حتى نضجتِ
وعندما كبرتِ وتمكنتِ مني خنتني وتركتني وذهبتِ, وذكراكِ...
وكأنكِ لم ترتوي من دمي وأدمعي, ألا يكفيكِ عذاباتي...؟ هروبي...؟ وحدتي...؟
عزلتي وانقطاع ابتساماتي؟
لا تومئي برأسكِ مستنكرةً! كنتِ زهرة الربيع ورمادية الخريف ورزانة الصيف,
أما اليوم فلم أعد أرى فرقاً بين المواسم, كلهم سواء.
هل بكيتِ علي فعلاً أم كانت دموعكِ مثل فاكهة عصرنا هرمونية؟ قال لي الآن
صديقي وهو جالس لجانبي: "إن كتاباتك إباحية" فقلت له: "وهل إذا كتبت عن
نفسي أخالف القوانين الشرعية؟"
أعوذ بحبكِ وما صنعتِ. لقد تعودت يداي على ملامسة شعركِ المموج الأسود,
موج البحر شعركِ, تعودت شفتاي على خديكِ يا جاهلة, يا من استعجلت القدر
وتنبأتِ بغدٍ لم يكن سيأتي, تعودت أناملي على ملامستكِ حتى أثناء الطعام ومشاهدة
التلفاز وقبل أن نذهب لفراشنا.
كانت كل نجومي بين عينيكِ وسمائي تحت جفنيكِ ووضعت قلبي تحت قدميكِ.
كيف استطعتِ أن تتخذي مثل هذا القرار وأنتِ تعلمين بقلبي بين مقلتيكِ, قد كبر
قلبي وترعرع على يديكِ ولم يعرف الحب الأول إلا في عهدكِ.
لقد كنت لكِ كتاباً مفتوحاً ورويت لكِ كل قصصي وغراماتي ولم أستثني من فتياتي
فتاة إلا وقصصت لكِ أسرارها ثغرها ومحواها, لو أني عرفتكِ لتعلمت الكذب
والخداع بدلاً من الحب على يديكِ.
ويسألني الصحب عنكِ: "كيف حالها؟" يا من بصبري عليها كل السنين كان جرمي,
قد غزلتها لكِ حباًَ وحناناً, كنت أسألكِ أن تجيبيني ولو مرة, اليوم لا! أنا من يطرح
السؤال وأنا من عرف الجواب وأجاب, لا أريد أن تجيبيني ولا تحاولي سؤالي ولا
تلوميني لو عرفكِ كل العالم من خلال حروفي.
عيني منكِ مازالت تدمع وإن لم أشعر بحزن أحياناً وقلبي قد انكسر!
من أنا؟ كيف أعيش؟ وكيف أبدو؟ من يراني غني عن سؤالي. لا تحاولي الاتصال بي
ولا تراسليني وإن مرضت فلا تزوريني, أتركيني واهجري خاطري ولا تصحبيني حتى
في خلوة من خيالاتي, وإن قرأ أوراقي أحد أصدقائي وسألكِ: "هل هو أنتِ؟" قولي لهم:
"لا إنما هي حقيبة متاعه, أحبها وغزل الشعر بها وتركها في بيتي".
قررت دفن قلبي وهمساتي وحواراتي إن كانت كلها منكِ, ولو أن الباقي منها آهات
وجراحات.
لا تحاولي انتظاري في محطة الحافلة المعتادة كي تلوميني, فإني قد رحلت بعدما
علمت وتيقنت أنكِ أنتِ والزمان لم تعرفوا مدى اخلاصي وانتمائي.
مازال الصحب يسألونني عنكِ: "أمازلت تذكرها؟"
ويسألونني عن أيامي: "أليس لديك جديد؟"
مازالوا يسألونني عنكِ: "أعادت من رحلتها بعد أن طال الغياب؟ هل عادت وقاربها
من عالم النسيان ومن دون سؤالها عن غدها؟"
وعندما كانت معي لطالما سألت عن طالعها وحظها, ولطالما تنبأت عن غدها وقد
كان قرارها.
كنت في حيرة دائماً كيف أجيب على فيض من الأسئلة المتناثرة, كيف؟ ولما؟
ومتى؟ وأين؟
أسئلة كنت لا أجد أجوبة عليها ويؤلمني سماعها. اليوم لا, فأنا عزمت أن لا أراكِ,
وإذا زرتني كعادتكِ في خيالاتي دون إذني فسأرجو ملائكة النار أن تحرق كل خيالاتي
وبرمادها أنثر ليلة مظلمة ماطرة.
اختلطت دموعي بحبات المطر وفي داخلي قرحة وشقى كانا في الأمس عشقاً وندى,
ويعاتبني أصدقاء الأمس: "لماذا لم تعد كما كنت في الماضي, زياراتك وسؤالاتك ورسمك"
لا أريد يا صحبي أن أسمع عتاباً ولا أريد أن أكون بينكم لا أمامكم ولا خلفكم إنما كل ما
أرجوه أن لا تسألوني ولا تهاتفوني وإن رأيتموني في زقاق الحي حيوني ولا تلبثوا معي
حتى تخرجوا عن التحية وتدخلوا في السؤال.
أريد أن أكون وحدي ولا تدعوا الخوف علي, أما أنا إذا احتجت إلى صديق فها حبات
المطر تمسح بدموعي دون سؤالات أو عتابات, قد أنسى ما كان, قد أجعل من الماضي
جسراً أخطو عليه نحو الأمام, سأنظر إلى الماضي مثل جندي على برج المراقبة في ليلة
شتاء قاسية ستكون عن قريب أمس قد أذكره.
مقتطف من روايتي (لأني عربي)