تتميز عصافير الجنة بتعدد أنواعها وألوانها البديعة،
وأشكالها الغريبة، وتستخدم الذكور ريشها الساحر لجذب انتباه الإناث للتقرب
منها، تمهيداً لموسم التكاثر. وتنتشر تلك الطيور في غينيا الجديدة،
الواقعة جنوب شرق آسيا، والمجاورة لاندونيسيا، خاصة في مدينة “بابوا”
العاصمة، التي تعد موطناً أساسياً لهذه الطيور. ( اعتقد البعض أنها قادمة
من السماء )
إعداد: عقل عبدالله
لكل من عصافير الجنة طقوسه وشعائره في الحب وممارسة حياته الرومانسية التي
تختلف في بعض التفاصيل وإن اتفقت في ملامحها ومظاهرها الأساسية، فمنها ما
ينحني برأسه فقط أو بجسمه كله احتراماً وينفش ريش صدره أو ذيله أو يقوم
بحركات سريعة ذات إيقاع موسيقي منتظم كرقصة الباليه أو يهز جناحيه أو ذيله
أو إصدار أصوات متنوعة تختلف من طائر لآخر، وأمام هذه الحركات الاستعراضية
التي تتم أمام الإناث تجد إحداها منجذبة لذلك الذكر العاشق أكثر من غيره
فتلبي دعوته لمشاركته الرقص ثم تقوده حتماً إلى عش الزوجية.
ويمكن القول إنه لا يوجد من طائر في الكرة الأرضية يمكنه اتقان الرومانسية
والغزل والزواج كما تفعل عصافير الجنة، حيث يستعرض الذكر تفاصيل طقوس
الغزل والحب لجذب انتباه الحبيبة، والحصول على رضاها وإيقاعها في شباك
غرامه بجميع أعضاء جسمه من الرأس حتى الرقبة والجناح والصدر والذيل
والأرجل وذلك يعني تلقائياً تحريك الريش ونفشه في عملية تلاعب بالألوان
والمظهر تنسجم مع خضرة الأشجار في الغابات المطيرة بتلك الجزر الاستوائية.
وبدأت طيور الجنة الانفصال بسلالاتها عن العشيرة الواحدة قبل ملايين
السنين في مسيرة تطور حتى أصبح لدينا 38 نوعاً منها 34 تعيش في غينيا
الجديدة والجزر التابعة لها، كما بدأت عينات ونماذج من هذه الطيور في
الوصول إلى أوروبا في القرن السادس عشر بتقديمها كهدايا للملوك والأمراء
الغربيين حيث وصل بعضها إلى إسبانيا عام 1522 على متن واحدة من سفن
الرحالة المستكشف المشهور ماجلان، وسرت شائعات حينذاك أن هذه الطيور
الجميلة بألوانها الزاهية والفاتنة غير طبيعية، وليس لها وجود على الأرض
وأنها قادمة من كوكب آخر أو السماء أو الجنة.
ويعترف الرحالة والمستكشفون القدامى، ومنهم عالم الطبيعة الفرنسي رينيه
ليسون الذي زار غينيا الجديدة عام ،1824 بأن أشكال هذه الطيور وألوانها
الزاهية والمتعددة سحرتهم وأدهشتهم حيث يقول “لم أمتلك الجرأة ولم تطاوعني
أصابعي في الضغط على زناد البندقية لأطلق النار عليها حيث سلبت القلب،
واستولت على العقل وتركني جمالها الأخاذ مستغرقاً في دهشة وتأمل”.
وأسماء هذه الطيور تدل على الدهشة وتعكس ما تحدثه من تعجب: مثل سوبيرب،
ماغنيفيسنت، سبلندد، الامبراطور.. وغيرها. وعلى مدى عقود عملت الدول
الأوروبية على تشجيع صيد هذه الطيور بأعداد كبيرة من خلال الطلب المتزايد
على جلودها وريشها بعد أن ازدهرت تجارة وصناعة القبعات النسائية بأشكالها
الغريبة وألوانها المثيرة والساحرة، وخاصة في بدايات القرن الماضي، لكن
عمليات الصيد خفت وتراجعت كثيراً بعد جدل أخلاقي مطول أثارته جماعات ناشطة
في بريطانيا والولايات المتحدة مما دفع الحكومة البريطانية عام 1908 إلى
تجريم صيد هذه الطيور لأغراض تجارية واعتباره خرقاً للقانون، ثم تبعتها في
ذلك، عام 1931 هولندا التي كانت تستعمر غينيا الجديدة واندونيسيا، وحالياً
تحظر السلطات مغادرة أي من عصافير الجنة إلا بشكل قانوني لأغراض البحث
العلمي وحسب، وأظهر السكان الأصليون لغينيا الجديدة تبجيلاً وتقديراً لها
منذ وقت طويل قبل اهتمام الأجانب بشرائها واقتنائها حيث نسجوا حولها
الأساطير والحكايات الخيالية وشكلت جزءاً مهماً من ثقافتهم المحلية
واستخدموا أنواعاً معينة من ريشها في دفع مهر العروس.
وتقول عالمة الانثروبولوجيا جيليان جيليسون من جامعة تورنتو والتي عاشت
وسط قبائل غينيا الجديدة لأكثر من عشرة أعوام ودرست عاداتهم وتقاليدهم
وثقافتهم “بالنسبة للسكان المحليين فإن للريش علاقة بطيران الروح البشرية
وتحليقها وترمز إلى الولادة وبدء الحياة”.
كما تجسد طيور الجنة للطيور الأخرى رمز الإثارة الرومانسية واتقان فنون
الغزل والغموض الجسدي إضافة إلى أنها بألوانها الساحرة تثير الطيور
الجارحة وتلفت انتباهها لافتراسها، ويقول عالم الأحياء إد شولز من متحف
نيويورك للتاريخ الطبيعي “إن الحياة هنا في غينيا الجديدة ليست برية
بالمعنى التقليدي المعروف وإنما هي عرض مثير وشائق لطيور الجنة لأن تلك
الجزر توفر بيئة متميزة ومناسبة تسمح لها بحرية الحركة والحياة والتزاوج
وسهولة الحصول على طعامها على نحو لا يتوافر في مناطق أخرى”.
وتتوفر ثمار الفواكه والحشرات في غابات غينيا الجديدة على مدار السنة مما
يعني وجود غذاء تلك الطيور إضافة إلى أن التهديدات الطبيعية في أكبر جزيرة
استوائية في العالم قليلة مثل الثدييات وخاصة القرود التي تنافس طيور
الجنة على ثمار الفاكهة إلى جانب عدم وجود القطط لتكون النتيجة النهائية:
جنة للطيور تحتضن هذه الأيام أكثر من 700 نوع.
ويضيف سولز أن قوانين البقاء استناداً إلى نظرية دارون للتطور والارتقاء
ليست موجودة وفعالة في أي مكان آخر أكثر منها في غينيا الجديدة حيث يصل
طولها إلى 1500 ميل، خاصة فيما يتعلق باعتبار اتقان فنون الغزل المعيار
الحقيقي للجدارة والصلاحية بين ذكور عصافير الجنة والمطلوب منها القدرة
على بناء عش الحياة الزوجية حفاظاً على الاستمرارية من خلال التكاثر.
كما أن تشكيل تضاريس غينيا الجديدة من جبال وأودية وغابات مطيرة، وصخور
بركانية نتيجة هزات أرضية يوفر مشهداً جميلاً من الطبيعة يسهم في حماية
الحياة البرية، وخاصة بالنسبة لعصافير الجنة ويعكس تعددية ثقافية حيث يصل
عدد اللهجات واللغات المحلية في بابوا إلى 750 لهجة ولغة، وفي عام 2005
قام فريق من العلماء بعملية مسح لجبال فوجا في إقليم بابوا الاندونسي الذي
يشكل جزءاً من الجزيرة الرئيسية الكبيرة لدراسة صفات وحياة وسلوك طائر
بيرليبس باروشيا أحد عصافير الجنة المميز بنحو ست ريشات على رأسه، وفي
الشرق حيث جبل كريتر تنمو الغابات وتزداد كثافة كلما اقتربت من القمة
لتشكل مظلة لا تسمح إلا بمرور قدر ممكن من أشعة الشمس ويصل المعدل السنوي
للأمطار إلى نحو 300 بوصة مما يجعل الأرض اسفنجية طرية بسبب تراكم طبقات
المواد العضوية بينما تزدحم أصوات الطيور وتتقاطع مع بعضها في صورة من
الفوضي الجميلة، ويقضي طائر الباروشيا ساعات وهو يقوم بتنظيم ساحته
وترتيبها والتدرب على حركات استعراضية لتعليم ذكور أصغر منه حضروا للتعلم
منه.
http://www.hmammaroc.com/
وتشير جيليسون إلى أن السكان المحليين لغينيا الجديدة يعيشون هذه المشاهد
ويراقبونها منذ قرون واستمدوا كثيراً من طقوس حياتهم وشعائرهم من الطيور
في الغناء والرقص ويستخدمون ريشها في لباسهم، ويتميز طائر “بلاك استرابيا”
بطول ريش ذيله عن الطيور الأخرى بينما يزين شريط أبيض طويل رأس طائر “كينغ
أوف ساكسوني”.
ويواصل ديفيد ميتشيل من المنظمة الدولية للدراسات الخاصة بالحفاظ على
البيئة والطبيعة دراساته وأبحاثه على عصافير الجنة ولا سيما الأنواع
النادرة منها مثل طائر “جولدي” الذي يعيش جزيرتين إلى الجنوب الشرقي من
طرف غينيا الجديدة التي لا تبعد كثيراً عن استراليا.
وعلى مدى ملايين الأعوام كانت ولاتزال طيور الجنة تمارس القفز والرقص
للحفاظ على النوع واستمرارية حياتها وستبقى كذلك مواصلة رقصها طالما أن
تلك الغابات توفر لها بيئة ومسرحاً
...